فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}.
في الأسف خمسة أقاويل:
أحدها: أنه المتأسف على فوت ما سلف قاله علي بن عيسى.
والثاني: أنه الحزين، قاله ابن عباس.
والثالث: هو الشديد الغضب، قاله الأخفش.
والرابع: المغتاظ، قاله السدي.
والخامس: النادم، قاله ابن قتيبة.
وفي غضبه وأسفه قولان:
أحدهما: غضبان من قومه على عبادة العجل؟ أسفًا على ما فاته من مناجاة ربه.
والثاني: غضبان على نفسه في ترك قومه حتى ضلوا، أسفًا على ما رأى في قومه من ارتكاب المعاصي.
وقال بعض المتصوفة إن غضبه للرجوع عن مناجاة الحق إلى مخاطبة الخلق.
{قَالَ بِئْسَ مَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدي} يعني بعباة العجل.
{أَعَجِلْتُم أَمْرَ رَبِّكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: يعني وعد ربكم الذي وعدني به من الأربعين ليلة، وذلك أنه قَدَّروا أنه قد مات لمَّا لم يأت على رأس الثلاثين ليلة، قاله الحسن، والسدي.
والثاني: وعد ربكم بالثواب على عبادته حتى عدلتم إلى عبادة غيره، قاله بعض المتأخرين. والفرق بين العجلة والسرعة أن العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة: عمله في أقل أوقاته.
{وَأَلْقَى الألْوَاحَ} وفي سبب إلقائها قولان:
أحدهما: غضبًا حين رأى عبادة العجل، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه ألقاها لما رأى فيها فضائل غير قومه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، قال: رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد، فاشتد عليه فألقاها، قاله قتادة.
وكانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح فتكسرت رفع منها ستة أسباعها وكان فيما رفع تفصيل كل شيء الذي قال الله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ من كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْضِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قاله الله: {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ}.
وقال ابن عباس: ألقى موسى الألواح فتكسرت ورفعت إلا سدُسها.
{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} فيه قولان:
أحدهما: أنه أخذ بأذنه.
والثاني: أخذ بجملة رأسه.
فإن قيل: فلم قصده بمثل هذا الهوان ولا ذنب له؟
فعن ذلك جوابان.
أحدهما: أن هذا الفعل مما قد يتغير حكمه بالعادة فيجوز أن يكون في ذلك الزمان بخلاف ما هو عليه الآن من الهوان.
والثاني: أن ذلك منه كقبض الرجل منا الآن على لحيته وعضه على شفته {قَالَ ابْنَ أُمَّ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه قال ذلك لأنه كان أخاه لأمه، قاله الحسن.
والثاني: أنه قال ذلك على عادة العرب استعطافًا بالرحم، كما قال الشاعر:
يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شقيقَ نَفْسِي ** أَنْتَ خَلَّيْتَنِي لأَمْرٍ شَدِيدٍ

{فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} يعني من خالفه في عبادة العجل لأنهم قد صاروا لمخالفتهم له أعداء.
{وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ} أي لا تغضب عليّ كغضبك عليهم ولست منهم فأدركته الرقة: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لَي ولأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}.
يريد رجع من المناجاة، ويروى: أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال: هذه أصوات قوم لاهين، فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخله الغضب والأسف وألقى الألواح، قاله ابن إسحاق، وقال الطبري: أخبره الله تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب، والأسف قد يكون بمعنى الغضب الشديد، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن والمعنيان مترتبان هاهنا، وما المتصلة ب بئس مصدرية، هذا قول الكسائي، وفيها اختلاف قد تقدم في البقرة، أي بئس خلافتكم لي من بعدي، ويقال: خلفه بخير أو بشر إذا فعله بمن ترك من بعده، ويقال عجل فلان الأمر إذا سبق فيه، فقوله: {أعجلتم} معناه: أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدر به، وقوله تعالى: {وألقى الألواح} الآية، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان سبب إلقائه الألواح غضبه على قومه في عبادتهم العجل وغضبه على أخيه في إهمال أمرهم، وقال قتادة إن صح عنه: بل كان ذلك لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرغب أن يكون ذلك لأمته فلما علم أنه لغيرها غضب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول رديء لا ينبغي أن يوصف موسى عليه السلام به والأول هو الصحيح، وبالجملة فكان في خلق موسى عليه السلام ضيق وذلك مستقر في غير موضع، وروي أنها كانت لوحان وجمع إذ التثنية جمع، وروي أنها كانت وقر سبعين بعيرًا يقرأ منها الجزء في سنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف مفرط، وقاله الربيع بن أنس، وقال ابن عباس: إن موسى لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة، وهو الذي أخذ بعد ذلك، وقد تقدم القول من أي شيء كانت الألواح، وأخذه برأس أخيه ولحيته من الخلق المذكور، هذا ظاهر اللفظ، وروي أن ذلك إنما كان ليساره فخشي هارون أن يتوهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والأول هو الصحيح لقوله: {فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} [طه: 94] وقوله: {يا ابن أم} استلطاف برحم الأم إذ هو ألصق القرابات، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم {ابن أمَّ} بفتح الميم فقال الكوفيون أصله ابن أماه فحذفت تخفيفًا، وقال سيبويه هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوها، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي {ابن أمِّ} بكسر الميم، فكأن الأصل ابن أمي فحذفت الياء إما على حد حذفهم من: لا أبال ولا أدر تخفيفًا، وإما كأنهم جعلوا الأول والآخر اسمًا واحدًا ثم أضافوا كقولك يا أحد عشر أقبلو، قاله سيبويه، وهذا أقيس من الحذف تخفيفًا، ثم أضافوا ياء المتكلم، ثم حذفت الياء من أمي على لغة من يقول يا غلام فيحذفها من المنادى، ولو لم يقدر جعل الأول والآخر اسمًا واحدًا لما صح حذفها لأن الأم ليست بمناداة، و{استضعفوني}: معناه اعتقدوا أني ضعيف، وقوله: {كادوا} معناه قالوا ولم يفعلوا، وقرأ جمهور الناس {فلا تُشْمِت بي الأعداء} بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء، وقرأ مجاهد فيما حكاه أبو حاتم {فلا تَشمَت بي} بفتح التاء من فوق والميم ورفع {الأعداءُ} أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي، وقرأ حميد بن قيس {تَشمِت} بتاء مفتوحة وميم مكسورة ورفع {الأعداءُ} حكاها أبو حاتم، وقرأ مجاهد أيضًا فيما حكاه أبو الفتح {فلا تَشمَت بي الأعداءَ} بفتح التاء من فوق والميم ونصب الأعداء، هذا على أن يعدى شمت يشمت، وقد روي ذلك، قال أبو الفتح: فلا تشمت بي أنت يا رب، وجاز هذا كما قال تعالى: {يستهزىء بهم} [البقرة: 15] ونحو ذلك، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلًا نصب به الأعداء كأنه قال: لا تشمت بي الأعداء كقراءة الجماعة.
قال القاضي أبو محمد: وفي كلام أبي الفتح هذا تكلف، وحكى المهدوي عن ابن محيصن: {تَشِمت} بفتح التاء وكسر الميم، {الأعداءَ} بالنصب، والشماتة: فرحة العدو بمصاب عدوه، وقوله: {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} يريد عبدة العجل. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا؛ لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ مُوسَى إذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ، وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ فِي الْقَلْبِ، وَلِأَجْلِهِ «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَضِبَ أَنْ يَضْطَجِعَ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ فَلْيَغْتَسِلْ؟» فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ، وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ صَكَّهُ صَكَّةً فَفَقَأَ فِيهَا عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتنِي إلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ.
فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ.
قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ.
قَالَ: فَالْآنَ»
الْحَدِيثَ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ غَضَبِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَمَا أَوْقَعَ الْغَضَبَ هَاهُنَا، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى أَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ؟ قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى ثُمَّ نُسِخَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ ضَمَّ أَخَاهُ إلَيْهِ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ، فَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمْ اسْتَضْعَفُوهُ، وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِمَنْ خَشِيَ الْقَتْلَ عِنْدَ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ لَا يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ فَإِنَّ مُوسَى لَمْ يُغَيِّرْ غَضَبُهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ؛ بَلْ اطَّرَدَتْ عَلَى مَجْرَاهَا، مِنْ إلْقَاءِ لَوْحٍ، وَعِتَابِ أَخٍ، وَصَكِّ مَلَكٍ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {غضبان أسِفًا}.
في الأسِفِ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الحزين، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي.